في مثل هذا اليوم، 11 ديسمبر، من كل عام تحل ذكرى ميلاد أديب مصر، الأستاذ نجيب محفوظ، وبهذه المناسبة استأذن حضراتكم في إعادة نشر هذا المقال، والذي يدور حول رمزية العوامة في واحدة من أهم رواياته، ثرثرة فوق النيل، والتي أرى أن صلاحية قراءتها تتجدد ذاتيًا. فهي وإن دارت أحداثها في منتصف الستينيات، إلا أن أفكارها لا تقف عند حدود عصر بعينه.
ولعل هذه المزية الفريدة تتحقق في الكثير من كتابات محفوظ؛ إذ لم تكن الثلاثية تأريخًا لأسرة عبر تعاقب أجيالها، قدر ما كانت تجسيدًا لأمة وتشريحًا لمجتمع يعيش تناقضات شتى؛ السيد أحمد عبد الجواد بين ظاهره المتشدد المتحفظ وباطنه العابث، ولأن العرق دساس فقد جاء ابنه ياسين نموذجًا للهو والبحث عن المزاج الرائق بكل السبل، ولو على حساب المستقبل، وليس غريبًا أن تجمعه الصدفة مع أبيه في عوامة تديرها إحدى الراقصات، وينجح في الهرب قبل أن يراه.
جسدت العوامة صورة رمزية بالغة الدلالة في روايات محفوظ؛ فهي من جانب التكوين كيان ضخم يشير بما عليها من بشر إلى كتلة مجتمعية تتنوع فيها الثقافات والمستويات الوظيفية والمعيشية، اتخذوا منها مقرًا لجلسات الكِيفْ وطرح مناقشات سياسية وفلسفية في الهواء الطلق دون حواجز تعوق انطلاقها، وكأن تلك الأفكار ليست سوى دخان أزرق تنفثه عقول فئة من الناس جمعهم هم مشترك من دون أن يكون له تأثير في محيطه الجغرافي.
ومن جانب آخر فالعوامة بطبيعتها غير مستقرة؛ تطفو على سطح دائم الحركة، بين مد وجزر يرمز لتيارات فكرية وسياسية وحركة بندولية لمجتمع صاخب يتطلب الحفاظ على استقرارها النسبي عينٌ مدربة تعرف متي تجذب الحبال ومتى ترخيها كعم عبده الخفير في رواية (ثرثرة فوق النيل).
بحرفية رسم محفوظ في صدر الرواية وبخطوط عريضة بالغة التعبير مشهدًا بالغ التناقض لا يختلف عن حال الخفير المقيم في كوخ متواضع بالقرب منها، يؤذن للصلاة ويؤم المصلين ثم يخرج قاصدًا بعض المحال ليشتري لوازم السهرة من حشيش وخمر، وهو ما زال على حاله يبسمل ويحوقل ويتمتم بأدعية ما بعد الصلاة.
يلخص عم عبده حياته في كلمتين (خادم السادة) الذين تعاقبوا على سكن العوامة، يراهم جميعًا رغم اختلاف هيئاتهم وشخصياتهم نسخة مكررة في قوالب متباينة.
ولا تختلف حال مرتادي العوامة عن حالها المضطرب فوق النيل وإن بلغت ذروة التشابه مع الشخصية المحورية في الرواية؛ أنيس زكي الموظف فارغ الذهن والبال، الناقد لمجتمعه ورموزه. يعيش بلا مستقبل. هارب من الواقع إلى عالم من الهلاوس والخيال، يُرجع كل ما حوله إلى العبث لدرجة يقترب فيها من نظرة (ميرسولت) للحياة في رواية الغريب لألبير كامو.
جاء للعاصمة من الريف للدراسة وتوفيت زوجته وطفلته الرضيعة في شهر واحد بمرض واحد، وعندما توقفت عنه الموارد المالية اكتفي بما حَصَّلَ من دراسة وتَوَظَفَ بوزارة الصحة، ودارت به ساقية الحياة على وتيرة لا تتغير ولا يفكر هو في تغييرها، اللهم إلا في نوع الـمِزاج ولوازمه، يتكلم مع نفسه أكثر مما يتحدث مع الآخرين، ويلخص هدفه فيقول لرفقائه (ما دامت الجوزة دائرة فماذا يهمكم ؟!).
مجلس كهذا ليس بغريب أن ترتاده سنية كامل بعد ما ضبطت زوجها يغازل جارتها، فلعلع صوتها حتى سمعه سابع جار وحزمت حقيبتها إلى العوامة لتلتقي صديقها على السيد، أو (الزوج الاحتياطي)، كما كانوا يطلقون عليه، رجل ريفي يعشق مظاهر السلطة وإن كان مجرد موظف بسيط بلا جاه أو سلطان.
أما أحمد نصر، فيصفه محفوظ بأنه (مسلم، يصلي ويصوم، وزوج مثالي يقف من نساء العوامة موقف المصريين من الأحداث). وهو إسقاط بالغ الدلالة في رؤية محفوظ لعلاقة المواطنين بالسياسة.
ورغم تحول مسار الأحداث بوصول الصحفية سمارة بهجت وحضورها الطاغي بجاذبيتها وثقافتها ومحاولتها دفع المجموعة للتغيير والاندماج في المجتمع.
مثلت العوامة ثِقَلاً مؤثرًا ومُرَجِحًا في الرواية وذلك بما أضفته من أجواء وما أشارت إليها من دلالات، فإلى جانب ما أسلفنا توضيحه سابقًا، تأتي صور الهاموش المتكالب على المصباح الكهربائي وكتب التاريخ المصفوفة إلى جوار بعضها البعض في القاعة الرئيسية بها، ورمزية ظهور خيالات لأنيس زكي على صفحة النيل من قبيل حوت يونس ومحاولته التهام العوامة، وظهور قادة غيروا التاريخ مثل هارون الرشيد وابن طولون في وقت تكابد فيه مصر آلام نكسة 1967 وتبحث عمن يأخذ بيدها وسط موج اليأس المتلاطم، وكلها مشاهد أوحت بها العوامة وانسجمت مع ضفيرة الأحداث المتشابكة وما يدور في جنباتها وعلى سطحها من أحاديث وحوارات لم تخرج في النهاية عن كونها (ثرثرة فوق النيل).
---------------------------------------
بقلم: د.م. محمد مصطفى الخياط
[email protected]






